تتميز حضرموت، عبر تاريخها الطويل، بكونها أرضاً تتقاطع فيها الثقافات والمذاهب والتجارب الإنسانية، مما جعلها ميداناً غنياً لحكايات السلام والتسامح التي تناقلتها الأجيال، هذه الحكايات ليست مجرد سرديات للتسلية أو المتعة، بل هي إرث ثقافي واجتماعي يرسخ قيم العيش المشترك، ويغرس في النفوس أهمية التفاهم ونبذ الصراعات.
لقد كان السرد الشفهي لقصص التسامح في المجتمع الحضرمي وسيلة رئيسية لتربية النشء في حضرموت، حيث تضمنت الحكايات الشعبية قصصاً عن تبادل المصالح والمنافع بين جيران تعايشوا بسلام، وعن قبائل حسمت نزاعاتها بالصلح لا بالسلاح، وعن حكماء استطاعوا بكلمة طيبة أن يجنبوا الدماء، هذه القصص غرست في وجدان الأجيال مفاهيم مثل التسامح، والإيثار، والعدل، والرحمة، لتتحول إلى قيم عملية تنعكس في العلاقات الاجتماعية اليومية.

الأمر الذي دعانا في مؤسسة صحافة السلام وبالشراكة مع اللجنة الوطنية للمرأة بساحل حضرموت لتنظيم ندوة “حكايات السلام .. جسور بين الأجيال” بمناسبة اليوم العالمي للسلام، فلطالما خلقت الحكايات الحضرمية جسراً بين الماضي والحاضر، فعندما يسمع الطفل اليوم قصة عن جدّه الذي ساعد خصمه في وقت الحاجة، أو عن امرأة من قريته أصلحت بين المتخاصمين، فإنه لا يتعرف فقط على أحداث قديمة، بل يدرك أن السلام جزء من هويته الحضرمية، هذا الربط بين الأجيال يضمن استمرار القيم رغم التحديات السياسية والاجتماعية التي تواجه المنطقة.
تجربة حضرموت في سرد حكايات السلام والتسامح يمكن أن تتسع لتشمل اليمن كله شمالاً وجنوباً، فالبلاد التي أنهكتها الحروب والانقسامات بحاجة إلى رواية جامعة، تذكّر الجميع بأن التعايش ليس غريبًا عن ثقافتهم، إن استدعاء هذه الحكايات وتوثيقها ونشرها، سواء في المدارس أو عبر الإعلام أو في الفنون، يمكن أن يعزز ثقافة وطنية قائمة على المصالحة والتفاهم.

السلام المستدام لا يقوم فقط على الاتفاقيات السياسية، بل يحتاج إلى ثقافة راسخة تجعل العنف مرفوضاً في الوعي الجمعي، وحكايات حضرموت تملك هذه القدرة، لأنها تروي عن بشر عاديين اختاروا السلام في لحظات صعبة، فإذا ما تم توظيف هذه الحكايات ضمن برامج تربوية وثقافية، فإنها يمكن أن تصبح أساسًا لتعزيز المصالحة المجتمعية، وبناء ثقة متبادلة بين المكونات المختلفة في اليمن.
إن حكايات السلام والتسامح في حضرموت ليست مجرد تراث شفهي، بل هي رسالة حضارية قادرة على مد الجسور بين الأجيال نحو مستقبل تتجذر فيه قيم التعايش، ولعل تحويل هذا الإرث إلى مشروع ثقافي وتربوي واسع سيكون خطوة مهمة في طريق تحقيق سلام مستدام لا يقتصر على حضرموت، بل يشمل اليمن بأسره.

أضف تعليق